بقلم سليمان جودة ٢٩/١/٢٠٠٨ كان السفير نبيل العربي واحدًا ممَنْ شاركوا في مفاوضات كامب ديفيد، مع السادات، عام ١٩٧٨.. وقد جاء عليه وقت، في أثناء المفاوضات، أحس فيه، بأن سيادة مصر، علي سيناء، سوف تكون منقوصة، إذا سار الأمر، في التفاوض مع الجانب الإسرائيلي، علي ما كان عليه وقتها ! ولم يتوقف الأمر، بالنسبة للسفير العربي، عن حدود الإحساس فقط، ولكنه تجاوز ذلك، إلي أن أصبح همًا يلازمه، فهمس به إلي زملائه من سائر أعضاء فريق التفاوض المصري، فأفهموه جميعًا أنهم لا يستطيعون مفاتحة السادات، في مسألة كهذه، حتي ولو كانوا يرون ما يري، وأنه - أي السفير العربي - إذا كان عاجزًا عن التخلص من إحساسه، الذي كان يؤرقه، وهاجسه الذي يؤلمه، ففي إمكانه أن يذهب، ويفاتح الرئيس، بشجاعة، ويتكلم أمامه، بصوت مرتفع، عما يشغله! ولم يكذب السفير خبرًا، وأسرع إلي السادات، في جناحه الخاص، حيث كان يقيم، ثم راح يستعرض أمامه مخاوفه، فاستمع إليه الرئيس، وأنصت تمامًا، حتي انتهي الرجل من كلامه، ولم يقاطعه في كلمة واحدة، ثم اعتدل السادات، في جلسته، وهو يدخن غليونه الشهير، وقال - ما معناه: اسمع يا ابني.. أنت وزملاؤك، قد يكون عندكم حق، في هذه الوساوس.. ولكنكم تفكرون في الحكاية، بطريقة مختلفة تمامًا، عما أفكر بها فيها، وتنظرون إليها، من زاوية، غير التي ينبغي أن ننظر إليها، منها.. ثم قال السادات: أنا يا ابني، شأني شأن أي فلاح مصري، يعرف جيدًا، أن أهم شيء، بالنسبة لأي قطعة أرض يملكها، هو أن تكون تحت حيازته، ليس هذا فقط، وإنما أن ندق «حديدة» في أعماق التربة، كما يقال في الريف المصري، عند حدود هذه الأرض، وعند أولها، وعند آخرها.. بمعني أن تكون هذه «الحديدة» المدقوقة في الأرض، هي حدود ما أملكه، وهي التي تشير، بوضوح كامل من خلال وجودها في باطن الأرض، إلي مساحة، لا يستطيع أحد، أيا كان هذا الأحد، أن ينازعني في ملكيتها.. وكل ما عدا ذلك يا ابني - هكذا قال السادات وهو يخاطب العربي بهدوء - يمكن أن يكون له حل، ويمكن أن يكون هناك توافق حوله، وموضوعه في نهاية المطاف، سهل.. فالمهم أن تكون، كأي فلاح.. أرضك في يدك ! طبعًا، هذا المنطق، لم يعجب السفير العربي، ولا نال إعجاب كثيرين، من بين طاقم المفاوضات، ومن خارجه، من أول الوزير إسماعيل فهمي، مرورًا بالوزير محمد إبراهيم كامل، وانتهاء بالكاتبة الأستاذة فريدة الشوباشي.. إلي جانب الأستاذ هيكل، بالطبع، وغيرهم كثيرون ! غير أنك، حين تتأمل منطق السادات، تكتشف، بشيء من الموضوعية، والحياد، والواقعية، أنه منطق ينطوي علي عقلانية كبيرة، ويدل علي بصيرة، ويخاطب الكل، في تعامله مع الموضوع برمته، لا الجزء، ويتطلع إلي الهدف الأبعد، ولا ينشغل بالتفاصيل، ويري الغابة، قبل الشجرة! إننا يمكن أن نتفهم تمامًا، مخاوف السفير العربي، في ذلك الوقت، ومن بعده مخاوف الذين رأوا، ولايزالون يرون، أن سيادتنا علي أرضنا منقوصة، بموجب الاتفاقية.. ولكننا، في الوقت نفسه، نتساءل: هل هناك أحد، يستطيع، بدواعي هذا النقص في السيادة، أن يمنعك، من زراعة سيناء، من شمالها إلي جنوبها، ومن شرقها لغربها.. وهل هناك مَنْ يجرؤ، علي أن يقف في وجهك، كبلد، إذا قررت أن تنقِّب في كل شبر منها، عن البترول، أو غيره أو تتقصي أثر المناجم، وتحفر عنها، في كل متر؟!.. وهل هناك، مَنْ يناقشك، في أن تتصرف في سيناء، بكل ما توجبه حالة سلام بين البلدين، من استغلال للأرض، هناك، بأي طريقة، تراها ؟! نتكلم عن الوضع الطبيعي، في حالة سلام، تحكمه اتفاقية بين البلدين.. أما الحرب، فلها مقتضيات أخري، إذا وقعت - لا قدر الله - فوقتها، تستطيع أن تتحلل من كل شيء، وأن تعلن عدم التزامك به.. بالضبط كما خرق هتلر كل أشكال الاتفاقيات، بينه وبين بلاد أوروبا، وراح يطويها، بلدًا بلدًا تحت قدميه، حين نحَّي السلام، وقرر الحرب !! هكذا يقول العقل.. أما القلب، الذي استند إليه السفير العربي، ومَنْ معه، فالسياسة لا تعرفه !! ء |